لم تكن الحداثة أو التحديث بمفهومه الفلسفي وتطبيقه العملي والحضاري أمرا جديدا طارئا على الحضارة العربية الإسلامية بعد الاتصال بالغرب، فالإسلام بحد ذاته مشروع حداثي غير القيم والمفاهيم والثقافة السائدة، وحرك أتباعه نحو التحرير والنهضة والتغيير ورفض التقليد والاتباع غير الواعي للموروث والتقاليد.
وشهد الفكر والعمل الإسلامي حالات من الحداثة والتجديد المهمة والمتتابعة بلا توقف، وأهمها في العصر الحديث حركات وجهود الإصلاح التي بدأت في القرن التاسع عشر الميلادي، وكان لبعضها صلات وتفاعلات مع الحضارة الغربية الزاحفة عسكريا واحتلاليا إلى الشرق.
فالحداثة الغربية بالمفهوم المتداول اليوم والذي ينصرف إليه الذهن عند ذكر هذا المصطلح تعنى حالة ثقافية وفكرية بدأت في أوائل القرن العشرين، ويعتبرها المؤرخ البريطاني الشهير أرنولد توينبي بدأت عام 1875، وقد شهدت الفترة بين عام 1910 وعام 1950 ذروة نشاط الحداثة، لتبدأ بعد ذلك حقبة حداثية أخرى اصطلح على تسميتها "ما بعد الحداثة" وإن كان البعض يعتبر ما بعد الحداثة ظاهرة ثمانينية ارتبطت بالمعلوماتية والاتصال، وما كان قبل ذلك فهو من امتدادات الحداثة المرتبطة بالصناعة.
وقد شهدت اتجاهات الأدب والنقد والثقافة والفلسفة والاجتماع والفكر في موجة الحداثة وما بعدها تحولات كبيرة تجلت في تطبيقاتها العملية في الأدب والفن الحديث الذي أوقف الاتجاهات الكلاسيكية، وفي الليبرالية السياسية والاقتصادية والديمقراطية وحقوق الإنسان.
وعندما أفاقت الولايات المتحدة لتجد نفسها بعد الحرب العالمية الثانية قوة عالمية غير واثقة من دورها القومي والدولي أغرقت نفسها والعالم في صدمات تجريبية، وفي الحرب الباردة، والنزعة الاستهلاكية، والمعاداة الهستيرية للشيوعية، والثورة الإباحية في الحياة والسينما، والحقوق المدنية، وحقوق النساء، وحرية الشذوذ، والأصولية المسيحية.
وانعكست هذه التفاعلات الغربية المنشأ في الشرق العربي والإسلامي على نحو ظهرت معه الحداثة العربية والإسلامية رد فعل على الحداثة الغربية، فتحولت الحركة الإصلاحية التي بدأت إسلامية موحدة في القرن التاسع عشر إلى اتجاهات ليبرالية وإسلامية، فكان لطفي السيد ورشيد رضا على سبيل المثال من تلاميذ محمد عبده، وظهرت الاتجاهات الحديثة في الشعر والفن والموسيقى والغناء، وتكونت المدن الحديثة العملاقة على حساب الريف المستنزف المهجور الملوث، وتكون اقتصاد خدماتي تضاءلت فيه الزراعة إلى درجة الفناء أو الاقتراب منه.
واليوم تبدو الخريطة السياسية والفكرية والفلسفية بعد التحول من الصناعة إلى المعلوماتية (ما بعد الصناعة) وانهيار الاتحاد السوفياتي وانتهاء الحرب الباردة كما لو أن العالم كان قصورا من الرمل يعصف بها المد، كما يصف الحالة الجديدة آلن تورين مؤلف كتاب "نقد الحداثة".
تعليقات